اللقاء الشهري الأول: د. ولاء رجيع

اللقاء الشهري الأول: د. ولاء رجيع

التعريف بشخصية الشهر: د. ولاء رجيع:


يسرنا أن نقدم لكم شخصية هذا الشهر: الدكتورة ولاء عادل رجيع، طبيبة طوارئ، مدربة معتمدة في الصحة النفسية والتطوير الشخصي، وأم لطفل نادر.

تجعل تجربتها الشخصية محور اهتمامها في دعم الأهالي والمقدّمين للرعاية، لتزويدهم بالأدوات والاستراتيجيات التي تساعدهم على التوازن والاهتمام بأنفسهم، وصنع بيئة إيجابية لأطفالهم.

في هذه المقابلة، تشارك د. ولاء جزءاً من تجربتها وآرائها حول التحديات التي يواجهها أهالي الأطفال ذوي الأمراض النادرة، وتجاربها العملية والشخصية في تقديم الدعم النفسي والتوجيه العملي.


س/ كيف أثرت كل من تجربتك كأم لطفل لديه مرض نادر وكونك طبيبة في بعضهما البعض؟


من أصعب الأمور التي شعرت بها تجاه ابني الشعور بالمسؤولية. من الصعب على الأهل التعايش مع العلاج خاصة حين يكون تأثيره مجهولاً، وكوني عاينت خلال عملي تلك الاحتمالات زاد من ذلك القلق والتحدي. ولكن مع الأيام تقبلت أن دوري في رعاية ابني كأم وليس طبيبة، وبالتالي أركز على ذلك الدور.

أنا كأم، أعتبر نفسي موظفة عند الأمراض النادرة. أبحث في المواقع وفي المجموعات المتنوعة المخصصة للأمراض النادرة عن المعلومات، وأبادر بأخذ ابني إلى المختصين، وأشارك قدر ما أستطيع بربط المختصين بعضهم ببعض، لكي يكون هناك عدد من الأطباء على معرفة بالحالة ومتابعة لها.

وكوني فاعلة في مسيرة ابني قد أثمر بالفعل ولله الحمد، على سبيل المثال، بادرت بأخذ ابني لدى مختصي التخاطب، وبالفعل بعد عدة سنوات أصبحت نصيحة الأطباء لمن لديهم حالة مثل ابني أنه يجب بدء جلسات التخاطب معهم بأسرع وقت لكي يستفيدوا منها.


س/ ما بعض الأعباء التي تقع على عاتق أهل الأطفال ذوي الأمراض النادرة؟


في منطقتنا بالتحديد، المعلومة محصورة على طبقة قليلة من الناس. لذلك مع الأسف، نجد أن غالب المسؤولية تقع على عاتق الأهل. هناك كثير من الاعتبارات تدخل في رعاية ذوي الأمراض النادرة، غير الرعاية الطبية: كالدعم النفسي، والادماج في المجتمع. هذه الأدوار لا يمكن أن يقوم بها شخص واحد أبداً أياً كان مجال تخصصه.

في أوقات، يكون الاهل كذلك مرهقين بسبب كثرة الأمور التي عليهم التفكير بها، وحين يتحتم عليهم رؤية الكثير من الأطباء، يسبب لهم ذلك ضغطاَ نفسياَ وتوتراَ، ويشعرهم بالتشتت والضياع.


س/ كيف يمكن للمنظومة الصحية أن تخدم احتياجات ذوي الأمراض النادرة وأهلهم بطريقة أفضل؟


نحتاج لأن تكون هناك مرجعيات في منطقتنا تربط بين المختصين والجمعيات، وبين الأهالي.

على سبيل المثال، إن لم يستطع طبيب معين إفادة المصاب بالمرض النادر، يجدر به أن يقوم بتوجيهه لشخص أكثر اختصاصاً. وحين يتم تشخيص الطفل بمرض نادر، سيكون من المعين جداً للأهل أن يتلقوا قائمة بالتخصصات الطبية التي يجب عليهم رؤيتها، كي لا يغفلوا عن جانب من رعاية الابن.


س/ لماذا قد يشعر الأهالي أن صوتهم غير مسموع فيما يتعلق باحتياجات أبنائهم ذوي الأمراض النادرة؟


من الأمور المؤلمة أثناء الرحلة العلاجية، فرق المعاملة التي يتلقاها الأطفال ذوو الأمراض النادرة مقارنة بأقرانهم. أحياناً أجد صعوبة في إقناع الأطباء بأن ابني لديه مشكلة تحتاج إلى تحري، لأنني كأمه ألاحظ التغيرات التي تحدث عليه من يوم إلى آخر، وأعرف متى يكون أو لا يكون على عادته. أحيانا يكون الرد الذي أجده بارداً، من سبيل "ماذا تتوقعين، هذا هو طفلك، لا يتوقع أن يتحسن"، ولكنني أعلم أنه كان أفضل الأسبوع الماضي، وعلى الأقل أريد أن يكون لديه فرصة مثل غيره للنظر في مشكلته.

أحيانا يكون قاسياً ومحطماً حين يقرر الطبيب أنه "ليس هناك فائدة من المحاولة" أو أن "لا شيء سيجدي معه" أو "ابنك أو بنتك لن يعيش أكثر من... سنة". من خلال تجربتي الشخصية، أشعر أنه حين يكون الجميع مقتنعين بأن الطفل لن يعيش بعد الخامسة من العمر مثلاً، أن هذا الطفل تقل فرصة أن يتلقى رعاية صحية مساوية لأقرانه.

وليس قصدي إلقاء اللوم على أحد، أنا طبيبة وأعرف الضغوط التي يمر بها الأطباء، ولكنه من الضروري أن يكون لدينا إنسانية نحو هؤلاء الأطفال، وأن نعاملهم تماما كما نعامل غيرهم، وأن نعطيهم فرصة عادلة.


س / كيف يمكن للطاقم الطبي أن يشعر الأهالي أن صوتهم مسموع فيما يتعلق بعلاج أبنائهم؟


أرى أنه بدلاً من أن نعطي للأهل طريقاً مسدوداً كقول "ابنكم أو ابنتكم ليس لديه أمل"، يجب أن نقتصر على طرح الخيارات المتاحة لديهم ونعطيهم الفرصة لعلاج أطفالهم. مع الأسف بسبب عدم توفر مراجع تخدم الأهل مباشرة، حين يقرر الطبيب أنه لن يحاول مع الطفل المصاب، تنتهي القصة هناك حتى لو أراد الأهل تجربة علاجات أخرى.

الطب يتقدم باستمرار، يجب أن نعطي هؤلاء الأطفال فرصة عن طريق العلاجات الجديدة، إن كان فيها أمل لتخفيف معاناتهم، مع توضيح إمكانية حصول مضاعفات نظراً لطبيعة العلاج.

كذلك، يجب أن نتجرد من اللوم، ونتذكر أن الأهل ليس لهم ذنب في مرض أبنائهم.


س/ كيف وصلتِ إلى مرحلة تشعرين فيها بالأمل في رحلة العلاج والحياة؟


الرحلة نحو الأمل رحلة صعبة، خاصة حين لا نجد الدعم الكافي، خصوصاً من المؤسسات التي يفترض بها أن تدعنا كالمدرسة والمنظومة الصحية. الأهل يتألمون فعلاً لألم أبنائهم، ألماً قد يطغى على حياتهم.

لكن، لا بد أن نعلم أنها مسؤوليتنا أن نسعى لأجل أبنائنا، ليس فقط في علاجهم، بل أيضاً أن نربيهم أحسن تربية. بعض الأهالي مع الأسف لا يحاول بتاتاً مع الطفل، فيظل الطفل مكتفاً في البيت بدون محاولة لمساعدته أن يعيش كغيره أو يندمج.

طبعاً، من الضروري كأهالي أن تكون توقعاتنا من الطفل معقولة. يجب ألا نتوقع أن جلسات قليلة من العلاج ستجعله كالطفل السليم، يجب أن نستمر في السعي من أجله، ونحتفي به وبتقدمه على وتيرته الخاصة. يجب أن نكون متقبلين لطفلنا ومرضه، ومتقبلين للتحديات ونسانده خلالها.

وجودنا في مجموعات الأهالي يخفف عنا كثيراً، حين ندرك أننا لسنا وحدنا في ركب المرض. الرضا بالواقع لا يخفي الألم، لكنه حتماً يقلل الألم.


س / أخبرتِني أنك كنتِ تستعملين عبارة "أنا نادر أنا مختلف" لرفع المعنويات وتقبل الذات. ما تأثير مثل هذه العبارة على نفسية الطفل؟


كون الطفل يعرف أن لديه مرضاً نادر، وأنه مختلف، وأنه مثل غيره يستحق الرعاية والاحترام والتقدير، يحميه من الكثير من الأمور. مثلا، التنمر والمعاملة المختلفة التي قد يواجهها، بالإضافة إلى صعوبات الحياة التي تصحب الإعاقة. حين يعرف الطفل أنه محبوب كما هو، وأنه لا أحد يعوضه في أسرته، هذا مهم جداً لبناء شخصية سوية.

الطفل الذي تكون متشبعاً بالتقدير والثقة بالذات، يكون مسؤولاً وقوي الشخصية، فحين يتعرض لتنمر أو غيره، فإنه ينزعج، ولكن لا ينكسر. أما إن تركنا الطفل حتى يتعرض للإساءة وعندئذ نحاول معالجة الأمر، فإننا تأخرنا، لأنه يكون قد تأذى تفسياً، وقد يجعله ذلك ينغلق على نفسه وقد يصنع لديه مشكلات نفسية.

حتى إن اعتقدنا أن الطفل لديه تأخر عقلي فيجب أن نعامله بنفس الطريقة كما لو كان يفهم، وقد يستغرب بعض الأهالي فعلاً كم أن أطفالهم يتشبعون حبهم واحترامهم وتقديرهم لهم.

هؤلاء الأطفال قد يتواصلون معنا بطريقة مختلفة، مثلاً قد يواجه صعوبة في نطق أو التعبير عما يريده لكن يؤشر بما يريده، ومن المهم أن نستمع إليهم.


س/ كيف يتعامل أهل الشخص ذي المرض النادر مع عدم تقبل بعض أفراد المجتمع له؟


نحن نعلم أنه دوماً ما سيكون هناك ناس غير متقبلين في المجتمع، ولكن نريد أن نضع اهتمامنا على الذين يكونون مستعدين للتفهم والتقبل والتعلم.

تقبل الطفل ذي المرض النادر مسؤولية مجتمعية، وذلك يبدأ من محيط الأسرة، كون الوالدين والإخوة متقبلين له يصنع فرقاً هائلاً في حياته. ثم انطلاقاً من ذلك نوسع الدائرة شيئاً فشيئاً.

حصل لي عدة مرات أنني تعاملت مع أطفال لم يكن في أسرهم أحد من ذوي الإعاقة، ولكن كانوا شديدي الوعي، فكانوا يراعون احتياجات إبني ويدمجونه ويتقبلونه، وهذه نتيجة التربية الحسنة. يجب أن نعرف أن الأطفال يتعلمون ويلتقطون من أفعالنا أكثر مما نعتقد. هناك خير كبير في المجتمع، وكل ما يقف أحد معنا يعطينا دفعة كبيرة لنستمر في العطاء.


س/ كيف شجعتك تجربتك الشخصية على أن تدخلي في مجال التدريب الشخصي وتكوني صوتاً للمرضى وأسرهم؟


إبني ذو المرض النادر ليس فقط جزءاً لا يتجزأ من حياتي، بل هو يعطيني القوة ويبني شخصيتي لأقف وراءه وأسانده، وتعلمت منه الكثير، الكثير مما لا يمكن تعلمه عن طريق الكتب.

ولأنني قد قطعت شوطاً كبيراً في التعايش مع الصعوبات ولله الحمد، أسعى لأن أساعد الأهالي خاصة الأمهات أمثالي. حين أقوم بجلسات تدريب شخصي مع الأمهات، يتقبلون كلامي أكثر من شخص لم يعش تجربتهم، لأنه نابع من تفهمي لهم. كوني قررت تكريس نفسي للتثقيف المجتمعي يجعلني أشعر بالمسؤولية ليس فقط نحو ابني والأمهات اللاتي أدربهن، بل المجتمع ككل والفرق الذي أستطيع أن أساهم فيه.

بالمقابل، أنا أيضاً أتعلم باستمرار من الأمهات اللاتي أقدم لهن التدريب، ومن تجاربهن اللاتي يشاركنها معي. لدينا والحمد لله مجتمع فعال كل منا يستمد طاقة وتفاؤلاً من الآخر.


س/ كيف يساعد التدريب الشخصي والعلاج النفسي الذي تقدمينه أهالي الأطفال ذوي الأمراض النادرة؟


حين بدأت بتقديم التدريب للأهالي، اكتشفت أن الكثير منهم يحتاجون كذلك للعلاج النفسي، فقمت بعمل التدريب اللازم لكي أستطيع أن أوفر لهم جميع الخدمات التي يحتاجونها، بدون أن يضطروا لتخصيص المزيد من وقتهم للبحث عن مختص آخر للعلاج النفسي.

الأهل هم الأساس فيما يتعلق بمستقبل الابن ذي الإعاقة أو ذي المرض النادر. المرض جزء من الطفل، والأهل هم أول من يستطيعون أن يتعلموا التقبل، التفهم، والتعايش معه ومع احتياجاته.

كذلك في أحيان كثيرة، هناك تجارب يمر بها الأهل لكن لا يستطيعون مشاركتها مع الأهل والأصدقاء، مخافة أن يفهم أمر خطأ عن الطفل، ولكنهم يرتاحون حين يعبرون عنها برفقة المختص النفسي.

حين يكون الأهل مشتتين ومنهكين، يصعب عليها معرفة الاتجاه الذي ينبغي أن يسلكوه. نحن نوجه الأهل ونعطيهم الأدوات اللازمة كي يضعوا الخطة الملائمة لأنفسهم وأبنائهم، فكل منهم لديه تجربة وظروف مختلفة.

حين تكون العوامل المتعددة منهكة، نساعد الأهل في النظر للصورة الكبيرة. الأم وإن لم تكن لديها خلفية علمية أو طبية فإن لديها حساً قوياً بما يحتاجه أبناؤها.


س/ هل يمكنك توجيه رسالة أخيرة للأهالي خاصة للأمهات؟


تقبل الأمر الواقع هو أصعب مرحلة. بالطبع نحب أطفالنا، ولكن من الصعب علينا تقبل التشخيص. لكن، لا بد علينا أن ننزع اللوم عن أنفسنا، لأن ذلك ليس خياراً أمامنا، فأبناؤنا يعتمدون علينا. يجب أن نعتني بأنفسنا، وبصحتنا، كي نستطيع أن نرعاهم ونؤمن لهم.

وسط الضغوط ننسى أحياناً كم تقدّم أبناؤنا، وننشغل بما لم يتحقق. لكن الاعتراف بخطواتهم الصغيرة وإنجازاتنا معهم يمنحنا القوة للاستمرار.

الكثير من الناس في مجتمعنا مستعدون للمساعدة، لكن أحياناً يفتقرون إلى المعرفة أو الأدوات اللازمة للقيام بذلك. فمثلاً، الأستاذ الذي يدرّس 35 تلميذاً في الفصل، حتى وإن كانت نواياه حسنة، لن يستطيع منح طفلي كل الاهتمام الذي يحتاجه. لهذا نسعى لتحسين المنظومات، حتى لا يقع العبء كله على شخص واحد.

وأخيراً، حين تغلق الأبواب في وجهنا أو نتوجه لنواحي عديدة دون أن نجد العلاج، من الطبيعي أن نشعر بالإحباط، والتعب. نحن نحتاج إلى معرفة حدود طاقتنا وقدراتنا. إذا اعتمدنا على أنفسنا فقط، فإننا نخطئ، وننسى. يجب أن نحيط أنفسنا بمن يفهمنا ويساندنا، وإن لم نجد مجتمعاً ننضم إليه نصنع نحن ذلك المجتمع.



نشكر الدكتورة ولاء على وقتها ومشاركتها هذه التجارب القيمة، ونشكركم على القراءة. ونرجوا أن نلقاكم مع شخصية الشهر القادم.



Published on: 29 September 2025